فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة الليل:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم.
(بسم الله) تخبر عن إلهية الله، وهي استحقاقه لنعوت المجد والتوحد، وصفات العز والتفرد، فمن تجرد في طلبه عن الكسل، ولم يستوطن مركب العجز والفشل، ووضع النظر موضعه وصل بدليل العقل إلى عرفانه ومن بذل روحه ونفسه شهود سلطاتنه، والناس فيه بين موفق ومخذول، أو مؤيد ومردود.
قوله جل ذكره: {وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى}.
يغشى الأفقَ، وما بين السماء والأرض فيستره بظُلْمتِه.
والليلِ لأصحاب التحيُّر يستغرِق جميعَ أقطار أفكارهم فلا يهتدون الرشد.
{وَالنَّهَارِ إِذَا تجلى}.
أنارَ وَظَهرَ، ووَضح وأسفر.
ونهارٌ أهلِ العرفان بضياء قلوبهم وأسرارهم، حتى لا يَخْفَى عليهم شيءٌ، فسكنوا بطلوعِ الشمس عن تكلُّف إيقاد السراجِ.
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى}.
أي: (من) خَلَقَ الذكر والأنثى؛ وهو الله سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى}.
هذا جوالُ القَسَم، والمعنى: إنَّ عملكم لمختلف؛ فمنكم: مَنْ سَعْيُه في طلب دنياه، ومنكم مَنْ سعيهُ في شهواتِ نَفْسِه واتباع هواه، ومنكم مَنْ سعيهُ في شهواتِ، ومنكم مَنْ في طَلَبِ جاهِه ومُناه، وآخر في طلب عقباه، وآخر في تصحيح تقواه، وآخر في تصفية ذكراه، وآخر في القيام بحُسْنِ رضاه، وآخر في طلب مولاه.
ومنكم: من يجمع بين سعي النّفْس بالطاعة، وسَعْي القلب بالإخلاص، وسعي البَدَن بالقُرَب، وسعي اللسان بذكر الله، والقول الحَسَنِ للناس، ودعاء الخَلْقِ إلى الله والنصيحة لهم.
ومنهم مَنْ سعيُه في هلاكِ نَفْسِه وما فيه هلاك دنياه.. ومنهم.. ومنهم.
قوله جل ذكره: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى}.
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} من مالِه، {واتقى} مخالفةَ ربِّه..
ويقال: {أعطى} الإنصافَ من نَفْسِه، {واتقى} طَلَبَ الإنصافِ لنفسِه...
ويقال: {اتقى} مساخِطَ الله.
{وَصَدَّقَ بالحسنى}: بالجنة، أو بالكَرَّةِ الآخرة، وبالمغفرةِ لأهل الكبائر، وبالشفاعة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالخَلَفِ من قِبَل الله... فسَنُيَسِّرهُ لليسرى: أي نُسَهِّلُ عليه الطاعاتِ، ونُكَرِّهُ إليه المخالفاتِ، ونُشَهِّي إليه القُرَبَ، ونُحبِّبُ إليه الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان.
ويقال: الإقامة على طاعته والعود إلى ما عمله من عبادته.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى}.
أما من مَنَعَ الواجبَ، واستغنى في اعتقاده، وكَذَّب بالحسنى: أي بما ذَكَرْنا، فسينسره للعسرى؛ فيقع في المعصية ولم يُدَبِّرْها، ونوقف له أسبابَ المخالفة.
ويقال: {أعطى} أعْرَضَ عن الدارين، {واتقى} أن يجعل لهما في نفسه مقداراً.
قوله جل ذكره: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى}.
يعني: إذا مات.. فما الذين يغني عنه ماله بعد موته؟
قوله جل ذكره: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى}.
لأوليائنا، الذين أرشدناهم. ويقال: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} بنصيب الدلائل.
{وَإِنَّ لَنَا للأَخِرَةَ والأولى}.
مُلْكاً، نعطيه من نشاء.
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى}.
أي: تتلظى.
{لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشقى}.
أي: لا يُعَذَّبُ بها إلاَّ الأشقى، وهو:
{الَّذِى كَذَّبَ وتولى}.
يعني: كَفَرَ.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذي يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى}.
يُعْطى الزكاة المفروضة.
ويقال يَتَطهَّر من الذنوب.
ونزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه، والآية عامة.
{وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى}.
حتى تكون هذه مكافأة له. ولا يفعل هذا لَيَتَّخِذَ عند أحد يَداً، ولا يطلب منه مكافأةٍ:
{إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربِّه الأعلى}.
أي: ليتقرَّبَ بها إلى الله.
{وَلَسَوْفَ يرضى}.
يرضى اللَّهُ عنه، ويرضى هو بما يعطيه. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الليل فِيهَا آيَتَانِ:
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى:
فِي مَعْنَى الْقَسَمِ فِيهَا: وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الأول: إنَّ مَعْنَاهُ وَرَبِّ الذَّكَرِ والأنثى.
وَهَذَا الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرٌ فِي كُلِّ قَسَمٍ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقَسَمِ بِهَا.
الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَآدَمُ خُلِقَ وَحْدَهُ قَبْلَ خَلْقِ حَوَّاءَ حَسْبَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قراءة الْعَامَّةِ وَصُورَةُ الْمُصْحَفِ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ وَابْنَ مَسْعُودٍ، كَانَا يقرآن: {وَالذَّكَرِ والأنثى}.
قَالَ إبْرَاهِيمُ: قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقرأ عَلَى قراءة عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالُوا: كُلُّنَا.
قَالَ تَقْرَءُونَ: {وَاللَّيْلِ إذَا يغشى}؟ قَالَ عَلْقَمَةُ: {وَالذَّكَرِ والأنثى}.
قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقرأ هَكَذَا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ أَنْ أَقرأ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى}، وَاَللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا مِمَّا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَشَرٌ، إنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصُّحُفِ؛ فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِأحد، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ النَّظَرُ فِيمَا يُوَافِقُ خَطَّهُ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ ضَبْطُهُ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ القرآن لَا يَثْبُتُ بِنَقْلِ الواحد، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَنْقَطِعُ مَعَهُ الْعُذْرُ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَسْمَعُهُمَا خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فِي ذَلِكَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يُعْتِقُ نِسَاءً وَعَجَائِزَ؛ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ، أَرَاك تُعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّك أَعْتَقْت رِجَالًا جَلْدًا يَقُومُونَ مَعَك، وَيَدْفَعُونَ عَنْك، وَيَمْنَعُونَك، فَقَالَ: أَيْ أَبَتِ؛ إنَّمَا أُرِيدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى}.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قَوْلُهُ: {مَنْ أَعْطَى}: حَقِيقَةُ الْعَطَاءِ هِيَ الْمُنَاوَلَةُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ يَصِلُ مِنْ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قَوْله تعالى: {واتقى}: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حَقِيقَةِ التَّقْوَى، وَأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ حِجَابٍ مَعْنَوِيٍّ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِقَابِ، كَمَا أَنَّ الْحِجَابَ الْمَحْسُوسَ يَتَّخِذُهُ الْعَبْدُ مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قَوْله تعالى: {وَصَدَّقَ بالحسنى}:
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الأول: أَنَّهَا الْخَلَفُ مِنْ الْمُعْطِي؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْجَنَّةُ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
فِي الْمُخْتَارِ: كُلُّ مَعْنًى مَمْدُوحٍ فَهُوَ حُسْنَى، وَكُلُّ عَمَلٍ مَذْمُومٍ فَهُوَ سُوأَى وَعُسْرَى، وَأَوَّلُ الْحُسْنَى التَّوْحِيدُ، وَآخِرُهُ الْجَنَّةُ؛ وَكُلُّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ بَيْنَهُمَا فَهُوَ حُسْنَى، وَأَوَّلُ السُّوأَى كَلِمَةُ الْكُفْرِ، وَآخِرُهُ النَّارُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا فَهُوَ مِنْهُمَا وَمُرَادٌ بِاللَّفْظِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا.
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْحُسْنَى الْخَلَفُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ.
المسألة السَّادِسَةُ:
قَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ} يَعْنِي نُهَيِّئُهُ بِخَلْقِ أَسْبَابِهِ، وَإِيجَادِ مُقَدِّمَاتِهِ، ثُمَّ نَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ حَسَنًا سُمِّيَ يُسْرَى، وَإِنْ مَذْمُومًا سُمِّيَ عُسْرَى، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ هَيَّأَ أَسْبَابَهَا لِلْعَبْدِ وَخَلَقَهَا فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّقَاءَ هَيَّأَ أَسْبَابَهُ لِلْعَبْدِ، وَخَلَقَهَا فِيهِ؛ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ صَحِيحَةٍ، يُعَضِّدُ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الْقَوْلِ، وَيَعْتَضِدُ بِالشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، مِنْهُ مَا رُوِيَ عن علي: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ، فَأَتَى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ، وَجَلَسْنَا، وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلَّا كُتِبَ مَدْخَلُهَا».
فَقُلْنَا: يَا رسول اللّه؛ أَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا؟ فَقَالَ: «بَلْ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَإِنَّهُ يُيَسَّرُ لِعَمَلِ الشَّقَاءِ».
ثُمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واستغنى} إلَى قَوْلِهِ: {للعسرى}.
وَسَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَا: الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ: «بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ».
فَقَالَا: فَفِيمَ الْعَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ».
قَالَا: فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ.
المسألة السَّابِعَةُ:
قَوْلُهُ: {بَخِلَ}: قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْبُخْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ مَنْعُ الْوَاجِبِ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ».
الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.
المسألة الثَّامِنَةُ:
قَوْلُهُ: {واستغنى}: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَغْنَى عَنْ اللَّهِ، وَهُوَ كُفْرٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَهُمْ فُقراء إلَيْهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اسْتَغْنَى بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ، فَرَكَنَ إلَى الْمَحْسُوسِ، وَآمَنَ بِهِ، وَضَلَّ عَنْ الْمَعْقُولِ، وَكَذَّبَ بِهِ، وَرَأَى أَنَّ رَاحَةَ النَّقْدِ خَيْرٌ مِنْ رَاحَةِ النَّسِيئَةِ، وَضَلَّ عَنْ وَجْهِ النَّجَاةِ، وَرِبْحِ التِّجَارَةِ الَّتِي اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى طَلَبِهَا بِإِسْلَامِ دِرْهَمٍ إلَى غَنِيٍّ وَفِيٍّ لِيَأْخُذَ عَشْرَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَهُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَالْخَلْقُ مِلْكُهُ، أَمَرَ بِالْعَمَلِ وَنَدَبَ إلَى النَّصَبِ، وَوَعَدَ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ؛ فَالْحَرَامُ مَعْقُولًا، وَالْوَاجِبُ مَنْقُولًا امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَارْتِقَابَ وَعْدِهِ، وَهَذَا مُنْتَهَى الْحُكْمِ فِي الْآيَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانِ مَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَقْصُودِ فَأَرْجَأْته إلَى مَكَانِهِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ. اهـ.

.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإرادة:
قال الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] وقال تعالى: {وَمَا لِأحد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تجزى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} [الليل: 19-21] وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 29] وقد أشكل على المتكلمين تعلق الإرادة بالله وكون وجهه تعالى مرادا قالوا: الإرادة لا تتعلق إلا بالحادث وأما بالقديم: فلا لأن القديم لا يراد وأولوا الإرادة المتعلقة به بإرادة التقرب إليه ثم إنه لا يتصور عندهم التقرب إليه فأولوا ذلك بإرادة طاعته الموجبة لجزائه هذا حاصل ما عندهم وحجابهم في هذا الباب: غليظ كثيف من أغلظ الحجب وأكثفها ولهذا تجدهم أهل قسوة ولا تجد عليهم روح السلوك ولا بهجة المحبة والطلب والإرادة عند أرباب السلوك: هي التجرد عن الإرادة فلا تصح عندهم الإرادة إلا لمن لا إرادة له ولا تظن أن هذا تناقض بل هو محض الحق واتفاق كلمة القوم عليه وقد تنوعت عبارات القوم عنها وغالبهم يخبر عنها بأنها ترك العادة ومعنى هذا: أن عادة الناس غالبا التعريج على أوطان الغفلة وإجابة داعي الشهوة والإخلاد إلى أرض الطبيعة والمريد منسلخ عن ذلك فصار خروجه عنه: أمارة ودلالة على صحة الإرادة فسمي انسلاخه وتركه إرادة وقيل: نهوض القلب في طلب الحق.
ويقال: لوعة تهون كل روعة قال الدقاقي: الإرادة لوعة في الفؤاد لذعة في القلب غرام في الضمير انزعاج في الباطن نيران تأجج في القلوب وقيل: من صفات المريد التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل المجهود في محبوبه والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم قرار القلب حتى يصل إلى وليه ومعبوده وقال حاتم الأصم: إذا رأيت المريد يريد غير مراده فاعلم أنه أظهر نذالته وقيل: من حكم المريد: أن يكون نومه غلبة وأكله فاقة وكلامه ضرورة وقال بعضهم: نهاية الإرادة: أن تشير إلى الله فتجده مع الإشارة فقيل له: وابن تستوعبه الإشارة فقال: أن تجد الله بلا إشارة وهذا كلام متين فإن المراتب ثلاثة: أعلاها: أن يكون واجدا لله في كل وقت لا يتوقف وجوده له على الإشارة منه ولا من غيره.
الثاني: أن يكون له ملكة وحال وإرادة تامة بحيث إنه متى أشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير الثالث: أن لا يكون كذلك ويتكلف وجدانه عند الإشارة إليه فالمرتبة الأولى: للمقربين السابقين والوسطى: للأبرار المقتصدين والثالثة: للغافلين وقال أبو عثمان الحيري: من لم تصح إرادته ابتداء فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا.
وقال: المريد إذا سمع شيئا من علوم القوم فعمل به: صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به وإذا تكلم انتفع به من سمعه ومن سمع شيئا من علومهم ولم يعمل به كان حكاية يحفظها أياما ثم ينساها وقال الواسطي: أول مقام المريد: إرادة الحق بإسقاط إرادته وقال يحيى بن معاذ: أشد شيء على المريد: معاشرة الأضداد وسئل الجنيد: ما للمريد حظ في مجازات الحكايات فقال: الحكايات جند من جند الله يثبت الله بها قلوب المريدين ثم قرأ قوله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] وقد ذكر عن الجنيد كلمتان في الإرادة مجملتان تحتاج كل منهما إلى تفسير الكلمة الواحدة: قال أبو عبدالرحمن السلمي: سمعت محمد بن مخلد يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت الجنيد يقول: المريد الصادق غني من العلماء وقال أيضا: سمعت الجنيد يقول: إذا أراد الله بالمريد خيرا: أوقعه إلى الصوفيه ومنعه صحبة القراء قلت: إذا صدق المريد وصح عقد صدقه مع الله: فتح الله على قلبه ببركة الصدق وحسن المعاملة مع الله: ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار الناس وآرائهم وعن العلوم التي هي فضلة ليست من زاد القبر وعن كثير من إشارات الصوفية وعلومهم التي أفنوا فيها أعمارهم: من معرفة النفس وآفاتها وعيوبها ومعرفة مفسدات الأعمال وأحكام السلوك فإن حال صدقه وصحة طلبه: يريه ذلك كله بالفعل. ومثال ذلك: رجل قاعد في البلد يدأب ليله ونهاره في علم منازل الطريق وعقباتها وأوديتها ومواضع المتاهات فيها والموارد والمفاوز وآخر: حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطريق وسار فيها فصدقه يغنيه عن علم ذلك القاعد ويريه إياها في سلوكه عيانا.
وأما أن يغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام وأحكام الأمر والنهي ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه: فقد أعاذ الله من هو دون الجنيد من ذلك فضلا عن سيد الطائفة وأمامها وإنما يقول ذلك قطاع الطريق وزنادقة الصوفية وملاحدتهم الذين لا يرون اتباع الرسول شرطا في الطريق وأيضا فإن المريد الصادق: يفتح الله على قلبه وينوره بنور من عنده مضاف إليها معه من نور العلم يعرف به كثيرا من أمر دينه فيستغني به عن كثير من علم الناس فإن العلم نور وقلب الصادق ممتلئ بنور الصدق ومعه نور الإيمان والنور يهدي إلى النور والجنيد أخبر بهذا عن حاله وهذا أمر جزئي ليس على عمومه بل صدقه يغنيه عن كثير من العلم وأما عن جملة العلم: فكلام أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم وأنه لا يفلح من لم يكن له علم وأن طريق القوم مقيدة بالعلم وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه كقوله: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم: هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة.
والمريد الصادق: هو الذي قرأ القرآن وحفظ السنة والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهما في كتابه وسنة رسوله يفنيه عن تقليد فهم غيره وأما قوله يعني الجنيد إذا أراد الله بالمريد خيرا: أوقعه على الصوفية ومنعه صحبة القراء فالقراء في لسانهم: هم أهل التنسك والتعبد سواء كانوا يقرءون القرآن أم لا فالقارئ عندهم: هو الكثير التعبد والتنسك الذي قد قصر همته على ظاهر العبادة دون أرواح المعارف ودون حقائق الإيمان وروح المحبة وأعمال القلوب فهمتهم كلها إلى العبادة ولا خبر عندهم مما عند أهل التصوف وأرباب القلوب وأهل المعارف ولهذا قال من قال: طريقنا تفت لا تقسر فسير هؤلاء: بالقلوب والأرواح وسير أولئك: بمجرد القوالب والأشباح وبين أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم: نوع تناكر وتنافر ولا يقدر أحدهم على صحبة النوع الآخر إلا على نوع إغضاء وتحميل للطبيعة ما تأباه وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهرية الفقهاء من التنافر ويسمونهم: أصحاب الرسوم ويسمون أولئك: القراء والطائفتان عندهم: أهل ظواهر لا أرباب حقائق هؤلاء مع رسوم العلم وهؤلاء مع رسوم العبادة ثم إنهم في أنفسهم فريقان: صوفية وفقراء وهم متنازعون في ترجيح الصوفية على الفقراء أو بالعكس أو هما سواء على ثلاثة أقوال فطائفة رجحت الصوفي منهم كثير من أهل العراق وعلى هذا صاحب العوارف وجعلوا نهاية الفقير: بداية الصوفي وطائفة رجحت الفقير وجعلوا الفقر لب التصوف وثمرته وهم كثير من أهل خراسان.
وطائفة ثالثة قالوا: الفقر والتصوف شيء واحد وهؤلاء هم أهل الشام ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء وهؤلاء حتى تتبين حقيقة الفقر والتصوف وحينئذ يعلم: هل هما حقيقة واحدة أو حقيقتان ويعلم راجحهما من مرجوحهما وسترى ذلك مبينا إن شاء الله في منزلتي الفقر والتصوف إذا انتهينا إليهما إن ساعد الله ومن بفضله وتوفيقه فلا حول ولا قوة إلا بالله وبه المستعان وعليه التكلان وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والمقصود: أن المراتب عندهم ثلاثة: مرتبة التقوى وهي مرتبة التعبد والتنسك ومرتبة التصوف وهي مرتبة التفتي بكل خلق حسن والخروج من كل خلق ذميم ومرتبة الفقر وهي مرتبة التجرد وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى فهذه مراتب طلاب الآخرة ومن عداهم: فمع القاعدين المتخلفين فأشار أبو القاسم الجنيد إلى أن المريد لله بصدق إذا أراد الله به خيرا: أوقعه على طائفة الصوفية يهذبون أخلاقه ويدلونه على تزكية نفسه وإزالة أخلاقها الذميمة والاستبدال بالأخلاق الحميدة ويعرفونه منازل الطريق ومفازاتها وقواطعها وآفاتها وأما القراء: فيدقونه بالعبادة من الصوم والصلاة دقا ولا يذيقونه شيئا من حلاوة أعمال القلوب وتهذيب النفوس إذ ليس ذلك طريقهم ولهذا بينهم وبين أرباب التصوف نوع تنافر كما تقدم.
والبصير الصادق: يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها ولا يتحيز إلى طائفة وينأى عن الأخرى بالكلية: أن لا يكون معها شيء من الحق فهذه طريقة الصادقين ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس ولا أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الدوينا سمع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلا يقول: (يا للمهاجرين) وآخر يقول: (يا للأنصار)! فقال: «ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» هذا وهما اسمان شريفان سماهم الله بهما في كتابه فنهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى أن يتداعوا بـ: المسلمين والمؤمنين وعباد الله وهي الدعوى الجامعة بخلاف المفرقة ك الفلانية والفلانية فالله المستعان وقال لأبي ذر: «إنك امروء فيك جاهلية» فقال: على كبر السن مني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم» فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان وطعم الصدق واليقين حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه والله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن قوس واحدة وقالوا: هذا مبتدع ومن دعاة البدع فإلى الله المشتكى وهو المسئول الصبر والثبات فلابد من لقائه {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61] {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]
فصل:
قال صاحب المنازل رحمه الله: باب الإرادة: قال الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] في تصديره الباب بهذه الآية دلالة على عظم قدره وجلالة محله من هذا العلم فإن معنى الآية: كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به فالفاجر يعمل على ما يليق به وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها: عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه ومحب الصور: عامل على ما يناسبه ويليق به فكل امرئ يهفو إلى ما يحبه وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه فالمريد الصادق المحب لله: يعمل ما هو اللائق به والمناسب له فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به والأنسب لها قال: الإرادة: من قوانين هذا العلم وجوامع أبنيته وهي الإجابة لدواعي الحقيقة طوعا أو كرها يريد: أن هذا العلم مبني على الإرادة فهي أساسه ومجمع بنائه وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة وهي حركة القلب ولهذا سمي علم الباطن كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سموه علم الظاهر فهاتان حركتان اختياريتان وللعبد حركة طبيعية اضطرارية فالعلم المشتمل على تفاصيلها وأحكامها: هو علم الطب فهذه العلوم الثلاثة: هي الكفيلة بمعرفة حركات النفس والقلب وحركات اللسان والجوارح وحركات الطبيعة فالطبيب: ينظر في تلك الحركات من جهة تأثر البدن عنها صحة واعتلالا وفي لوازم ذلك ومتعلقاته.
والفقيه: ينظر في تلك الحركات من جهة موافقتها لأمر الشرع ونهيه وإذنه وكراهته ومتعلقات ذلك.
والصوفي: ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده أو قاطعة عنه ومفسدة لقلبه أو مصححة له وأما قوله: وهي الإجابة لداعي الحقيقة ف الإجابة هي الانقياد والإذعان والحقيقة عندهم: مشاهدة الربوبية والشريعة التزام العبودية فالشريعة: أن تعبده والحقيقة: أن تشهده فالشريعة: قيامك بأمره والحقيقة: شهودك لوصفه وداعي الحقيقة: هو صحة المعرفة فإن من عرف الله أحبه ولابد.
ولابد في هذه الإجابة من ثلاثة أشياء: نفس مستعدة قابلة لا تعوز إلا الداعي ودعوة مستمعة وتخلية الطريق من المانع فما انقطع من انقطع إلا من جهة من هذه الجهات الثلاث وقوله: طوعا أو كرها يشير إلى المجذوب المختطف من نفسه والسالك إرادة واختيارا ومجاهدة قال: وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: ذهاب عن العادات بصحة العلم والتعلق بأنفاس السالكين مع صدق القصد وخلع كل شاغل من الإخوان ومشتت من الأوطان هذا يوافق من حد الإرادة بأنها: مخالفة العادة وهي ترك عوائد النفس وشهواتها ورعوناتها وبطالاتها ولا يمكن ذلك إلا بهذه الأشياء التي أشار إليها وهي: صحبة العلم ومعانقته فإنه النور الذي يعرف العبد مواقع ما ينبغي إيثار طلبه وما ينبغي إيثار تركه فمن لم يصحبه العلم: لم تصح له إرادة باتفاق كلمة الصادقين ولا عبرة بقطاع الطريق وقال بعضهم: متى رأيت الصوفي والفقير يقدح في العلم فاتهمه على الإسلام.
ومنها: التعلق بأنفاس السالكين ولا ريب أن كل من تعلق بأنفاس قوم انخرط في مسلكهم ودخل في جماعتهم وقال: أنفاس السالكين ولم يقل: أنفاس العابدين فإن العابدين من شأنهم القيام بالأعمال وشأن السالكين مراعاة الأحوال وقوله: مع صدق القصد يكون بأمرين.
أحدهما: توحيده والثاني: توحيد المقصود فلا يقع في قصدك قسمة ولا في مقصودك وقوله: وخلع كل شاغل من الإخوان: ومشتت من الأوطان يشير إلى ترك الموانع والقواطع العائقة عن السلوك: من صحبة الأغيار والتعلق بالأوطان التي ألف فيها البطالة والنذالة فليس على المريد الصادق أضر من عشرائه ووطنه القاطعين له عن سيره إلى الله تعالى فليغترب عنهم بجهده والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: تقطع بصحبة الحال وترويح الأنس والسير بين القبض والبسط أي ينقطع إلى صحبة الحال وهو الوارد الذي يرد على القلب من تأثيره بالمعاملة السالب لوصف الكسل والفتور الجالب له إلى مرافقة الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم فينتقل من مقام العلم إلى مقام الكشف ومن مقام رسوم الأعمال إلى مقام حقائقها وأذواقها ومواجيدها وأحوالها فيترقى من الإسلام إلى الإيمان ومن الإيمان إلى الإحسان وأما ترويح الأنس الذي أشار إليه: فإن السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة فتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عملا عليه ويستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها فله ميراث من قوله أرحنا بالصلاة يا بلال وجعلت قرة عيني في الصلاة بحسب إرادته ومحبته وأنسه بالله سبحانه وتعالى ووحشته مما سواه وأما السير بين القبض والبسط ف القبض والبسط حالتان تعرضان لكل سالك يتولدان من الخوف تارة والرجاء تارة فيقبضه الخوف ويبسطه الرجاء ويتولدان من الوفاء تارة والجفاء تارة فوفاؤه: يورثه البسط ورجاؤه يورثه القبض ويتولدان من التفرقة تارة والجمعية تارة فتفرقته تورثه القبض وجمعيته تورثه البسط ويتولدان من أحكام الوارد تارة فوارد يورث قبضا ووارد يورث بسطا وقد يهجم على قلب السالك قبض لا يدري ما سببه وبسط لا يدري ما سببه وحكم صاحب هذا القبض أمران:
الأول: التوبة والاستغفار لأن ذلك القبض نتيجة جناية أو جفوة ولا يشعر بها.
والثاني: الاستسلام حتى يمضي عنه ذلك الوقت ولا يتكلف دفعه ولا يستقبل وقته مغالبة وقهرا ولا يطلب طلوع الفجر في وسط الليل وليرقد حتى يمضي عامة الليل ويحين طلوع الفجر وانقشاع ظلمة الليل بل يصبر حتى يهجم عليه الملك فالله يقبض ويبسط وكذلك إذا هجم عليه وارد البسط: فليحذر كل الحذر من الحركة والاهتزاز وليحرزه بالسكون والانكماش فالعاقل يقف على البساط ويحذر من الانبساط وهذا شأن عقلاء أهل الدنيا ورؤسائهم: إذا ما ورد عليهم ما يسرهم ويبسطهم ويهيج أفراحهم قابلوه بالسكون والثبات والاستقرأر حتى كأنه لم يهجم عليهم وقال كعب بن زهير في مدح المهاجرين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوما ** وليسوا مجازيعا إذا نيلوا

قال الدرجة الثالثة: ذهول مع صحبة الاستقامة وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب الذهول ههنا: الغيبة في المشاهدة بالحال الغالب المذهل لصاحبه عن التفاته إلى غيره وهذا إنما ينفع إذا كان مصحوبا بالإستقامة وهي حفظ حدود العلم والوقوف معها وعدم إضاعتها وإلا فأحسن أحوال هذا الذاهل: أن يكون كالمجنون الذي رفع عنه القلم فلا يقتدى به ولا يعاقب على تركه الاستقامة وأما إن كان سبب الذهول المخرج عن الإستقامة باستدعائه وتكلفه وإرادته: فهو عاص مفرط مضيع لأمر الله له حكم أمثاله من المفرطين وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: متى كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا وقوله: وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب.
يريد به: ملازمته رعاية حقوق الله مع التأدب بآدابه فلا يخرجه ذهول عن استقامته ولا عن رعاية حقوق سيده ولا عن الوقوف بالأدب بين يديه والله المستعان. اهـ.